خلال هذا الاسبوع مرت علينا مناسبة اقليمية هامة ربما كثيرون لم ينتبهوا لها رغم اهميتها الشديدة لمصر, فمن المعلوم ان يوم النيل هو مناسبة يفترض ان تحتفى بها سنوياً دول الحوض الاحدى عشر حيث يمثل ذكرى توقيع اتفاقية أكبر تعاون تم بين دول حوض نهر النيل حتى الآن. و قد تم ذلك فى العاصمة التنزانية في الثانى و العشرين من شهر فبراير عام1999، وهى الاتفاقية المعروفة بمبادرة حوض النيل. وقد كان مخططا لها ان تمثل اطاراً للتعاون بين الدول الموقعة فى مجالات التنمية و تبادل الخبرات و التجارة البينية و الطاقة و التعليم وتمكين الفئات المهمشة , الأهم من ذلك كله الاستفادة بموارد النهر و أهمها المياه وفى هذه تدخل معنا وبقوة كيفية الاستفادة القصوى من الفواقد التى تحدث للمياه فى أقليم حوض نهر النيل.
و هنا اقول و بكل اسف أن 95,58% من مياه الآمطار التى تسقط على أقليم حوض النيل تذهب هباءً و ما يتدفق فى عروق النهر (روافده) و مجراه الرئيسى حوالى 4,42% فقط و بلغة الارقام أقول أن اجمالى الامطار التى تسقط سنوياً على دول الجوض حوالى 2147 مليار متر مكعب سنوياً يصل منها الى مجرى النيل و روافده حوالى 95 مليارمتر مكعب فقط و الباقى فاقد, اما التفاصيل فأقول ان الكمية الاعظم من الامطار و هى حوالى 1076 مليار متر مكعب تسقط على الهضبة الاثيوبية (أثيوبيا و ارتريا) او ما يطلق عليها النيل الشرقى يصل منها الى مجرى النهر 79,5 مليار متر مكعب سنوياً. ثم الهضبة الاستوائية او ما يسمى النيل الجنوبى و هى تشمل دول كينيا , أوغندا, الكنغو الديمقراطية, تنزانيا , راوندا , بوراندى تسقط عليها كمية امطار تقدر بنحو 527 مليار متر مكعب امطار سنوياً, وما يصل منها الى مجرى النهر 15 مليار متر مكعب فقط و فى دولة جنوب السودان حيث يوجد حوض بحر الغزال تسقط عليه حوالى 544 مليارمكعب من مياه الامطار يصل منها الى مجرى النهر نصف مليار فقط, و بالتالى فاننى ارى ان استقطاب الفواقد اجدى واهم من اقتسام المياه التى تصل الى مجرى النيل, الا ان دولاً من خارج الاقليم ترى غير ذلك و بالتالى تسوق عديدمن دول الحوض فى ركابها من اجل الاضرار بمصالح مصر تحديداً.
وفى ثنايا العرض السابق تتضح لنا جلياً الاوزان النسبية لأهمية دول حوض نهر النيل بالنسبة لمصر و مقدار الجهد الدبلوماسى الذى يجب ان تبذله مصر مع هذه الدول طبقاً لاهميتها المائية لنا , وتعبير الاهمية المائية لدول حوض النيل يجب ان يكون معياراً اساسياً فى علاقاتنا مع هذه الدول.
و الغريب ان الخلاف الأبرز بين دول الحوض كان على تقسيم المياه التى تتدفق فى مجرى النيل و روافده دونما ادنى اهتمام باستقطاب الفواقد و ما اكثرها و كأنما شياطين المياه تقبع فى حوض النيل وتوسوس لقادة الدول ان أختلفوا على المياه و لا تتعاونوا على استقطاب فواقدها و هنا يتبدى السؤال الساذج لماذا الأنصراف عن استقطاب الفواقد ايها السادة؟ علماً بانه من بين دول الحوض من يسهل التعامل معها دبلوماسيا من خلال الطريق التنموى و ربما تنتظر منا اشارة بذلك , و منها دولا يستحيل التعامل معها الا بمنطق تطبيق وصية الفرعون.
و فى تاريخنا الحديث كان الاستعمار البريطانى لمصر و السودان يهتم بذلك, ومصر العلوية أقصد مصر فى عهد الاسرة العلوية كان لها أسهامات كبيرة فى هذا المجال حيث كانت تهتم باستقطاب الفواقد بالاضافة الى ما عرف بمشروعات التخزين خارج الحدود و بناء سدود فى بعض دول حوض النيل ومنها السودان.أيضا مصر الثورة ساهمت فى بناء سد اوين عند مخرج بحيرة فكتوريا, وتجربة تنفيذ قناة جونقلى التى أجهضتها حركة التمرد فى جنوب السودان التى دبرت بليل فى الغرب بقيادة المهندس الزراعى و العقيد جون جارنج ليست ببعيد , فما الذى حدث اللآن و ما الذى يمنع مصر من أن تقود قاطرة العمل التنموى فى دول حوض نهر النيل و تكون فى مقدمة الاهتمامات و الاهداف ببساطة نبدأ باعمل على أستقطاب 5% فقط من فواقد مياه الامطار التى تسقط على دول الحوض أنه هدف يسير و لكنه عظيم النتائج و يحتاج الى ارادة سياسية و العمل على كافة الأصعدة الفنية و الاقتصادية و الاجتماعية و نحتاج فيه الى خلية عمل من رجال يعشقون مصر دونما النظر الى مكاسب سياسية أو شخصية.
والواقع يقول أننا نمتلك فرصاًهائلة للتعاون مع دول الحوض ، و بالتالى ينبغي عليناأن نعمل معاً على تحقيق التعاون المستدام من خلال زيادة الالتزام السياسي فيما بيننا، وحشد التمويل اللازم لتنفيذ المشاريع الاستثمارية في المنطقة لضمان الاستفادة لجميع شعوب حوض النيل.و لكن
ماذا لو لم نتمكن من احداث ذلك؟ و خاصة فى ظل ظروف دولية غير مواتية اعقاب جائحة كورونا و الحرب الروسية الاوكرانية و الزلازل التى تضرب منطقة شرق المتوسط بقوة فى الايام الاخيرة و الاستقطاب الدولى الحاد بين الغرب من جهة و روسيا و الصين وايران و كوريا الشماللية من جهة اخرى. عندها يكون لدينا طرح آخر فى هذا الاطار يخصنا نظراً لدقة الظرف الذى نمر به و هو التركيز فى التعاون مع دولة واحدة أو أكثر تحوز على فواقد مياه كثيرة يمكن التعاون معهما لاستقطاب و تقاسم الفواقد و تحويلها الى فوائد و هذا ممكن فى حالة السودان و دولة جنوب السودان فيمكن البناء على مشروع قناة جونقلى و التوسع فيه خاصة وان علاقاتنا بالدولتين لا تشوبها شائبة.
أننى أراها أسهل وأيسر الطرق للخروج من النفق المظم لتعاظم احتياجاتنا المائية نتيجة الزيادة السكانية و ما يواكبها من زيادة الطلب على المياه و أيضا نتيجة الرغبة فى التنمية و المضى قدما فى تنفيذ اجنده أستصلاح الاراضى , و هذا أفضل كثيرا من الترهات التى تتبدى لنا كل حين مثل ربط نهر النيل بنهر الكنغوا و نهر النيل الانبوبى …..الخ أوبعض الأطروحات الأكثر كلفة و مخاطرة كالتوجه الى أستنفاذ مخزوننا من المياه الجوفية أو تحلية مياه البحر. اتصور اننا بحاجة الى تفكير سريع و تنفيذ اسرع.